فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والثاني: أن القول بأن التكليف في صرائح الكتاب والسنة إنما تعلق الخ فيه أنه ليس المراد مطلق المقارنة بل المقارنة على جهة التعلق فالكسب عبارة عن تعلق القدرة الحادثة بالمقدور من غير تأثير كما في عبارة غير واحد، فالأوامر والنواهي متعلقة بالأفعال التي هي اختيارية في الظاهر باعتبار هذا التعلق الذي لا تأثير معه وادعاء أنها صرائح في التعلق مع التأثير ممنوع بل هي محتملة ولو سلم أنها ظاهرة في التأثير، فالظاهر قد يعدل عنه لدليل خلافه، والقول بأنا لا نفهم من تعلق القدرة إلا تأثيرها وإلا فليست بقدرة، فكيف يثبت للقدرة تعلق بلا تأثير سؤال مشهور وجوابه: ما في شرح المواقف وغيره من أن التأثير من توابع القدرة، وقد ينفك عنها ويجاب بأن تفسير الكسب بالتعلق الذي لا تأثير معه مرادًا به التحصيل بحسب ظاهر الأمر فقط مصادم للنصوص الناطقة بأن العبد متمكن من إيجاد أفعاله الاختيارية بإذن الله تعالى، ولا دليل على خلافه يوجب العدول، و{الله خالق كُلّ شَئ} [الرعد: 16] لا ينافي التأثير بالإذن على أن تعلق القدرة تابع للإرادة وتعلقها على القول بنفي التأثير بالكلية غير صحيح كما يشير إليه كلام الجلال الدواني في بيان مبادئ الأفعال الاختيارية، ويوضحه كلام حجة الإسلام الغزالي في كتاب التوحيد والتوكل من الإحياء، وأما ما في شرح المواقف وغيره من أن التأثير قد ينفك عن القدرة فنحن نقول به إذ ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن وإنما الإنكار على نفي التأثير بالكلية عن القدرة الحادثة والاستدلال بما ذكره حجة الإسلام في الاقتصاد من أن القدرة الأزلية متعلقة في الأزل بالحادث ولا حادث فصح التعلق ولا تأثير، ويجوز أن تكون القدرة الحادثة كذلك مجاب عنه بأن القدرة لا تؤثر إلا على وفق الإرادة والإرادة تعلقت أزلًا بإيجاد الأشياء بالقدرة في أوقاتها اللائقة بها في الحكمة فعدم تأثيرها قبل الوقت لكونها مؤثرة على وفق الإرادة لا مطلقًا فلا يجب تأثيرها قبل الوقت ويجب تأثيرها فيه والقدرة الحادثة على القول بنفي تأثيرها بالكلية لا يصدق عليها أنها تؤثر وفق الإرادة فلا يصح قياسها على القديمة.
والحاصل: إن كل تعلق للقديمة على وفق الإرادة لا ينفك عنه التأثير في وقته بخلاف الحادثة فإنه لا تأثير لها أصلًا على القول بنفي التأثير عنها كليًّا فلا تعلق لها بالتأثير على وفق الإرادة.
والثالث: أن القول في الاعتراض الثالث أنه لو كانت كذلك لكان التكليف بما لا يطاق واقعًا الخ يقال عليه: نلتزم وقوعه عند الأشعري ولا محذور فيه، ويجاب بأنه قد حقق في موضعه أن الإمام الأشعري لم ينص على ذلك ولا يصح أخذه من كلامه فالتزام وقوعه عنده التزام ما لم يقل به لا صريحًا ولا التزامًا. والقول بأنه لا محذور فيه إنما يصح بالنظر إلى الغنى الذاتي وأما بالنظر إلى أنه تعالى جواد حكيم فالتزامه مصادمة للنص وأي محذور أشنع من هذا.
والرابع: أن القول هناك أيضا أن المقارنة لو كانت هي الكسب لكانت هي المكلف بها غير لازم فإن الكسب يطلق على المعنى المصدري ويطلق على المفعول أي المكسوب وهو نفس الأمر لا الكسب بمعنى المقارنة أو تعلق القدرة الحادثة بالفعل فمعنى كسب تعلقت قدرته بالفعل، وإن شئت قلت: قارنت قدرته الفعل فكان الفعل مكسوبًا وهو المكلف به، ويجاب بأن الكسب الحقيقي الوارد في الكتاب والسنة معناه تحصيل العبد ما تعلقت به إرادته التابعة لإرادة الله تعالى بقدرته المؤثرة بإذنه وإن مكسوبه ما حصله بقدرته المذكورة فمعنى كون الفعل المكسوب مكلفًا به هو أن العبد المكلف مطلوب منه تحصيله بالكسب بالمعنى المصدري لأن المكسوب هو الحاصل بالمصدر فإذا كان المكسوب مكلفًا به كان الكسب بالمعنى المصدري مكلفًا به قطعًا لامتناع حصول المكسوب من غير قيام المعنى المصدري بالمكلف ضرورة انتفاء الحاصل بالمصدر عند انتفاء قيام المصدر بالمكلف فظهرت الملازمة في الشرطية.
والخامس: إن القول في الاعتراض أن المقارنة لكونها أمرًا مترتبًا على فعل الله تعالى لا تختلف الخ، فيه أمران: الأول: أنا لا نسلم التلازم بين كون المقارنة هي المكلف بها وبين عدم الاختلاف وأيّ مانع من أن تكون مختلفة باعتبار أحوال الشخص عندها فتارة يخلق الله تعالى فيه صبرًا وعزمًا وتارة جزعًا وفتورًا إلى غير ذلك مما يرجع إلى سلامة البنية ومقابله أو غيرهما من الأعراض والأحوال التي يخلقها الله تعالى ويصرف عبده فيها كيف شاء مما يوجب ألمًا أو لذة. الثاني: إن ما ذكرتموه مشترك الإلزام إذ يقال إذا كانت قدرة العبد مؤثرة بإذن الله تعالى فبأي وجه وقع الاختلاف حتى كان هذا سهلًا وهذا صعبًا وكلاهما مقدور وهما متساويان في الإمكان.
ويجاب أما عن الأول: بأن التلازم بين كونها مترتبة على فعل الله تعالى وبين عدم اختلافها متحقق لأنها إذا كانت الكسب بالمعنى المصدري كانت تحصيلًا للمكسوب والتحصيل لكونه قائمًا بالمكلف تتفاوت درجاته صعوبة وسهولة قطعًا ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «صل قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا فإن لم تستطع فعلى جنب» والمقارنة لكونها أمرًا مرتبًا على فعل الله تعالى ليست قائمة بالعبد فلا تتفاوت بالنسبة إليه أصلًا، والإيراد بتجويز اختلافها بكون بعضها بخلق الله تعالى عنده صبرًا في العبد الخ خارج عن المقصود لأن العبارة صريحة في أن المقصود عدم اختلافها بالنسبة إلى العبد صعوبة وسهولة لا مطلق الاختلاف، وأما عن الثاني: فبأنه قد دلت النصوص على تفاوت درجات القوة والبطش كقوله تعالى: {كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً} [غافر: 82] وقوله سبحانه: {كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ} [غافر: 21] وقوله عز شأنه: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا} [الزخرف: 8] وباختلاف درجات ذلك في الأقوياء التابع لاستعداداتهم الذاتية الغير المجعولة وقع الاختلاف في الأعمال صعوبة وسهولة، هذا ما ظفرنا به من تحقيق الحق من كتب ساداتنا قدس الله تعالى أسرارهم وجعل أعلى الفردوس قرارهم، وإنما استطردت هذا المبحث هنا مع تقدم إشارات جزئية إلى بعض منه لأنه أمر مهم جدًا لا تنبغي الغفلة عنه فاحفظه فإنه من بنات الحقاق لا من حوانيت الأسواق، والله تعالى الموفق لا رب غيره. اهـ.

.قال القرطبي:

إذا وُجدت الاستطاعة وتوجّه فرضُ الحج فقد يعرض ما يمنع منه كالغرِيم يمنعه عن الخروج حتى يؤدّيَ الدِّين؛ ولا خلاف في ذلك.
أو يكون له عِيَال يجب عليه نفقتهم فلا يلزمه الحج حتى يكوِّن لهم نفقتهم مدّةَ غيبته لذهابه ورجوعه، ولأن هذا الإنفاق فرض على الفَوْر، والحجّ فرضٌ على التّراخي، فكان تقديم العيال أوْلى.
وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثمًا أن يُضيِّع من يقوت» وكذلك الأبَوان يخاف الضيعةَ عليهما وعَدَم العوِض في التلطّف بهما، فلا سبيل له إلى الحج؛ فإن مَعنَاه لأجل الشّوق والوَحْشة فلا يُلتفت إليه.
والمرأة يمنعها زوجها، وقيل لا يمنعها.
والصحيح المنع؛ لاسيما إذا قلنا إن الحج لا يلزم على الفَوْر.
والبحر لا يمنع الوجوب إذا كان غالبه السلامة كما تقدّم بيانه في البقرة ويعَلم من نفسه أنه لا يَمِيد.
فإن كان الغالب عليه العَطَب أو المَيْد حتى يعطل الصَّلاة فلاَ.
وإن كأن لا يجد موضعًا لسجوده لكثرة الراكب وضيق المكان فقد قال مالك: إذا لم يستطع الركوع والسجود إلا على ظهر أخيه فلا يركبه.
ثم قال: أيركب حيث لا يصلي ويلٌ لمن ترك الصلاةا.
ويسقط الحج إذا كان في الطريق عدوّ يطلب الأنفس أو يطلب من الأموال ما لم يتحدّد بحدّ مخصوص أو يتحدّد بقدر مُجحِف. اهـ.

.قال الفخر:

روي أنه لما نزلت هذه الآية قيل: يا رسول الله أكتب الحج علينا في كل عام، ذكروا ذلك ثلاثًا، فسكت الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم قال في الرابعة: «لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما قمتم بها ولو لم تقوموا بها لكفرتم ألا فوادعوني ما وادعتكم وإذا أمرتكم بأمر فافعلوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن أمر فانتهوا عنه فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة احتلافهم على أنبيائهم» ثم احتج العلماء بهذا الخبر على أن الأمر لا يفيد التكرار من وجهين:
الأول: أن الأمر ورد بالحج ولم يفد التكرار.
والثاني: أن الصحابة استفهموا أنه هل يوجب التكرار أم لا؟ ولو كانت هذه الصيغة تفيد التكرار لما احتاجوا إلى الاستفهام مع كونهم عالمين باللغة. اهـ.
وقال الفخر:
استطاعة السبيل إلى الشيء عبارة عن إمكان الوصول، قال تعالى: {فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ} [غافر: 11] وقال: {هَلْ إلى مَرَدّ مّن سَبِيلٍ} [الشورى: 44] وقال: {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} [التوبة: 91] فيعتبر في حصول هذا الإمكان صحة البدن، وزوال خوف التلف من السبع أو العدو، وفقدان الطعام والشراب والقدرة على المال الذي يشتري به الزاد والراحلة وأن يقضي جميع الديون ويرد جميع الودائع، وإن وجب عليه الإنفاق على أحد لم يجب عليه الحج إلا إذا ترك من المال ما يكفيهم في المجيء والذهاب وتفاصيل هذا الباب مذكور في كتب الفقهاء والله أعلم. اهـ.

.قال ابن عادل:

قوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} فيه ستة أوجُه:
أحدها: أن {مَنْ} بدل من {النَّاس} بدل بعض من كل، وبدل البعض وبدل الاشتمال لابد في كل منهما من ضميرٍ يعود على المُبْدَل منه، نحو: أكَلْتُ الرَّغِيفَ ثُلُثَه، وسُلِب زيدٌ ثوبُه، وهنا ليس من ضمير. فقيل: هو محذوف تقديره من استطاع منهم.
الثاني: أنه بدلُ كُلٍّ من كُلٍّ، إذ المراد بالناس المذكورين: خاصٌّ، والفرق بين هذا الوجه، والذي قبله، أن الذي قبله يقال فيه: عام مخصوص، وهذا يقال فيه: عامٌّ أريد به الخاص، وهو فرق واضح وهاتان العبارتان للشافعي.
الثالث: أنها خبر مبتدأ مُضْمَر، تقديره: هم من استطاع.
الرابع: أنها منصوبة بإضمار فعل، أي: أعني من استطاع. وهذان الوجهان- في الحقيقة- مأخوذان من وجه البدل؛ فإنَّ كل ما جاز إبداله مما قبله، جاز قطعه إلى الرفع، أو إلى النصب المذكورين آنفًا. الخامس: أن {مَنْ} فاعل بالمصدر وهو حَدُّ، والمصدر مضاف لمفعوله، والتقدير: ولله على الناس أن يحج من استطاع منهم سبيلًا البيت.
وهذا الوجه قد رَدَّه جماعةٌ من حيث الصناعة، ومن حيث المعنى؛ أما من حيث الصناعة؛ فلأنه إذا اجتمع فاعل ومفعول مع المصدر العامل فيهما، فإنما يُضَاف المصدر لمرفوعه- دون منصوبة- فيقال: يعجبني ضَرْبُ زيدٍ عمرًا، ولو قلتَ: ضَرْبُ عمرٍو زيدٌ، لم يجزْ إلا في ضرورة، كقوله: [البسيط]
أفْتَى تِلاَدِي وَمَا جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبٍ ** قَرْعُ الْقَوَاقِيزِ أفْوَاهُ الأبَارِيقِ

يروى بنصب أفواه على إضافة المصدر- وهو قَرْع- إلى فاعله، وبالرفع على إضافته إلى مفعوله. وقد جوَّزَ، بعضُهم في الكلام على ضَعْفٍ، والقرأن لا يُحْمَل على ما في الضرورة، ولا على ما فيه ضعف، أمَّا من حيث المعنى؛ فلأنه يؤدي إلى تكليف الناس جميعهم- مستطيعهم وغير مستطيعهم- بأن يحج مستطيعهم، فيلزم من ذلك تكليف غير المُسْتَطِيعِ بأن يَحُجَّ، وهو غير جائز- وقد التزم بعضُهم هذا، وقال: نعم، نقول بموجبه، وأن الله- تعالى- كلَّف الناسَ ذلك، حتى لو لم يحج المستطيعون لزم غير المستطيعين أن يأمروهم بالحج حسب الإمكان؛ لأن إحجاج الناس إلى الكعبة وعرفة فرضٌ واجب. ومَنْ- على هذه الأوجه الخمسة- موصولة بمعنى: الذي.
السادس: أنها شرطية، والجزاء محذوف، يدل عليه ما تقدم، أو هو نفس المتقدم- على رأي- ولابد من ضمير يعود من جملة الشرط على {النَّاسِ}، تقديره: من استطاع منهم إليه سبيلًا فلله عليه.
ويترجح هذا بمقابلته بالشرط بعده، وهو قوله: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين}.
وقوله: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} جملة من مبتدأ- وهو {حِجُّ البيت}- وخبر- وهو قوله: {لله}- و{عَلَى النَّاسِ} متعلق بما تعلق به الخبر، أو متعلق بمحذوف؛ على أنه حال من الضمير المستكن في الجار، والعامل فيه- أيضا- ذلك الاستقرار المحذوف، ويجوز أن يكون على الناس هو الخبر، و{للهِ} متعلق بما تعلق به الخبر، ويمتنع فيه أن يكون حالًا من الضمير في {عَلَى النَّاسِ} وَإنْ كان العكس جائزًا- كما تقدم-.
والفرق أنه يلزم هنا تقديم الحال على العامل المعنوي، والحال لا يتقدم على العامل المعنوي- بخلاف الظرف وحرف الجر، فإنهما يتقدمان على عاملهما المعنوي؛ للاتساع فيهما، وقد تقدم أن الشيخ جمال الدين بن مالك، يجوز تقديمها على العامل المعنوي- إذا كانت هي ظرفًا، أو حرف جر، والعامل كذلك، ومسألتنا في الآية الكريمة من هذا القبيل. وقد جيء في هذه الآيات بمبالغاتٍ كثيرة.
منها قوله: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} يعني: أنه حق واجب عليهم لله في رقابهم، لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عُهدته.
ومنها: أنه ذكر {النَّاسَ}، ثم أبدل منهم {مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلًا}، وفيه ضربان من التأكيد.
أحدهما: أن الإبدال تثنية المراد وتكرير له.
والثاني: أن التفصيل بعد الإجمال، والأيضاح بعد الإبهام، إيراد له في صورتين مختلفتين، قاله الزمخشري، على عادة فصاحته، وتلخيصه المعنى بأقرب لفظ، والألف واللام في {البَيْتِ} للعهد؛ لتقدم ذكره، وهو أعلم بالغلبة كالثريا والصعيد. فإذا قيل: زار البيتَ، لم يَتَبَادر الذهن إلا إلى الكعبة شرفها الله.
وقال الشاعر: [الطويل]
لَعَمْرِي لأنْتَ الْبَيْتُ أكْرِمُ أهْلَهُ ** وَأقْعُدُ فِي أفْيَائِهِ بِالأصَائِلِ

أنشد هذا البيت أبو حيان في هذا المعرض.
قال شهابُ الدين: وفيه نظر، إذْ ليس في الظاهر الكعبة.
الضمير في: {إلَيْهِ} الظاهر عوده على الحَجِّ؛ لأنه محدَّث عنه.
قال الفراء: إن نويت الاستئناف بـ {مَنْ} كانت شرطًا، وأسقط الْجَزاء لدلالة ما قبله عليه، والتقدير: من استطاع إلى الحج سبيلًا، فللَّه عليه حجُّ البيت.
وقيل: يعود على {الْبَيْتِ}، و{إلَيْهِ} متعلق بـ {اسْتَطَاعَ}، و{سَبِيلًا} مفعول به؛ لأن استطاع متعدٍّ، ومنه قوله تعالى: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ} [الأعراف: 197]، إلى غير ذلك من الآيات. اهـ.
قال ابن عادل:
قال أبو العباس المقرئ: ورد لفظ الاستطاعة بإزاء معنيين في القرآن:
الأول: سَعَةِ المال، قال تعالى: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] أي: سعة في المال ومنه قوله تعالى: {لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} [التوبة: 42] أي: لو وجدنا سعة في المال.
الثاني: بمعنى الإطاقة، قال تعالى: {وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النساء} [النساء: 129]، وقال: {فاتقوا الله مَا استطعتم} [التغابن: 16]. اهـ.

.قال الفيروزآبادي:

وردت الاستطاعة في القرآن على ثلاثة أَوجهٍ:
الأَوّل: بمعنى السّعةِ والغِنى بالمال: {لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ}، {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}.
الثانى: بمعنى القوة والطَّاقة: {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاءِ}.
الثالث: بمعنى القُدْرة والمُكْنة البدنيّة: {وَمَا اسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْبًا}، {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ}.
والاستطاعة استفعالة من الطَّوع. وذلك وجود ما يصير به الفعل (متأتيا. وهو عن المحققين اسم للمعانى التي بها يتمكَّن الإِنسان مّما يريده من إِحداث الفعل.
وهى أَربعة أَشياءَ: بِنْية مخصوصة للفاعل، وتصوّر للفعل، ومادّة قابلة لتأْثيره، وآلة إِن كان الفعل آليًّا، كالكتابة؛ فإِن الكاتب محتاج إِلى هذه الأَربعة في إِيجاده للكتابة. ولذلك يقال: فلان غير مستطيع للكتابة إِذا فَقَد واحدًا من هذه الأَربعة، فصاعدًا. ويضادّه العَجْز، وهو أَلاَّ يجد أَحد هذه الأَربعة فصاعدًا. ومتى وَجَدَ هذه الأَربعة كلَّها فمستطيع مطلقا، ومتى فقدها فعاجز مطلقا، ومتى وجد بعضها دون بعض فمستطيع من وجهٍ، عاجزٌ من وجهٍ. ولأَن يوصَف بالعجز أَولى.
والاستطاعة أَخصّ من القدرة. وقوله تعالى: {وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} فإِنَّه يحتاج إِلى هذه الأَربعة. اهـ.